الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (24): {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان ثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار، وأتى بأن والمقام لاذا لاستمرار العجز وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير تهكمًا بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقًا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرًا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، و{تَفْعَلُواْ} مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين {ءانٍ}، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالًا بهذه الآية، وردّ بأن إن تطلب مثبتًا، ولم منفيًا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الاتيان المحقق في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو إن لم يقمن وإن كان للجملة يرد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلًا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ظاهرًا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية أعني الأمر بالاتقاء هو عجزهم عن إيقاعه لافوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال عونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرًا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازًا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادًا ولن كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله:ولا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولا طول مدة أو قلتها خلافًا لبعضهم، وليس أصلها لا أن كما روي عن الخليل فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار لن تضرب كلامًا تامًا دون أن ومصحوبها، وقيل به لقوله: واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا لا كما عند الفراء فأبدلت ألفه نونًا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرًا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاد العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لما يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيًا. وقوله سبحانه: {فاتقوا} جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه، وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضًا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببًا للاتقاء ولا ملزومًا له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابًا، والتزمه جملة خبرية لأن الإنشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرًا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضي له، والوقود بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرًا عند بعض، وحكوا ولوعًا، وقبولًا، ووضوءًا، وطهورًا، ووزوعًا، ولغوبًا. وقرأ عبيد بن عمير {وقيدها} وعيسى بن عمير وغيرها {وَقُودُهَا} بالضم. فإن كان اسمًا لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرًا كما قيل في سائر ما كان على فعول فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولًا: كذو وقودها أو ثانيًا: كاحتراق وهو نفسه خارجًا غير مفهومًا وذاك مصداق الحمل، وحكي أن من العرب من يجعل المفتوح مصدرًا والمضموم اسمًا فينعكس الحال فيما نحن فيه. والحجارة كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل بفتحتين على فعال شاذ، وابن مالك في التسهيل يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونواحطبًا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة زيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرًا كما في القاموس دون هذين القولين، الأصح أولهما: عند المحدثين وثانيهما: عند الزمخشري؛ ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها على كل ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين؛ فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر الناس والحجارة تعظيمًا لشأن جهنم وتنبيهًا على شدة وقودها ليقع ذلك في النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهوخلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضًا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: أنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادًا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولًا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودًا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك الخطيب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولًا مقالًا فتأمل.{أُعِدَّتْ للكافرين} ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودًا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافًا بيانيًا بأن يقدر لمن أعدت أو لمَ كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف بشر الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافًا يأبى عنه الذوق، أما الأول: فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني: فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال بلمَ كان شأن النار كذا مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالًا من النار باضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير {وَقُودُهَا} للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجبني حينئذ ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة نزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والاخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة.و {وَقُودُهَا الناس} إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى: {أُعِدَّتْ} هيئت، وقرأ عبد الله {اعتدت} من العتاد عنى العدة، وابن أبي عبلة {أعدها الله للكافرين} والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولًا أوليًا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار. ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم كانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيًا كـ {نفخ في الصور} [الكهف: 99] والإعداد مثله في {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا} [الأحزاب: 35] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرروها هواء محترق لا جمر لها ألبتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن. ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارًا، وكان يكره الوضوء ائه ويقول: التيمم أحب إلي منه وقال تعالى: {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} [التكوير: 6] أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي: {التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} [الهمزة: 7] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيق الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية وماذا على إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه. .تفسير الآية رقم (25): {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بالمؤمنين وما لهم جريًا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على {وَإِن كُنتُمْ} [البقرة: 23] إلى {أُعِدَّتْ} [البقرة: 24] أو على {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} [البقرة: 24] الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وادعى لتلائم النظم لأن {ياأيها الناس اعبدوا} [البقرة: 21] خطاب عام يشمل الفريقين {وَإِن كُنتُمْ} [البقرة: 23] إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار {وَبَشّرِ} إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم. وقيل عطف على {فاتقوا} [البقرة: 24] وتغاير المخاطبين لا يضر كـ {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى} [يوسف: 29] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن اتقوا إنذار وتخويف للكفار {وَبَشّرِ} تبشيرًا للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم استيجاب منكره العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء {فآمنوا} محذوفًا والمذكور قائم مقامه؛ فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة. واختار صاحب الإيضاح عطفه على أنذر مقدرًا بعد جملة {أُعِدَّتْ} وقيل: عطف على قل قبل {وَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} وتقديره قبل {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} [البقرة: 21] يحوج إلى إجراء {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة بالكسر والضم اسم من بشر بشرًا وبشورًا وتفتح الباء فتكون عنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا، والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرئ بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدًا كان فعل فيه مغنيًا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المختبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقًا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنًا أو سرورًا وكثر استعماله في الخير، وصححه في البحر.{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعًا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيمًا لشأنهم وإيذانًا تامًا فإنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.وقرأ زيد بن علي {وبشر} مبنيًا للمفعول وهو معطوف على {أُعِدَّتْ} [البقرة: 24] كما اشتهر، وقيل: إنه خبر معنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفًا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلًا مفيدًا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق {ءامَنُواْ} مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، و{الصالحات} جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحًا وصلاحًا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسمًا وأل فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلًا أو عمل عملًا واحدًا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرًا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلًا كان أو كثيرًا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعًا في المشهور كركب القوم دوابهم إذ قد يطلق أيضًا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم ومنه: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع.{أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} أراد سبحانه: {بِأَنَّ لَهُمُ} إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع أنّ، وأن بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو قتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلًا وكرمًا لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة في الأصل المرة من الجن بالفتح مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى عنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددًا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسر للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة كـ {إِنَّ لَنَا لاجْرًا} [الأعراف: 113] وتحت ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل من تحت أشجارها أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخدامًا ونحوه، وقيل: إن تحت عنى جانب كداري تحت دار فلان وضعف كالقول من تحت أوامر أهلها وقيل: منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية كما قيل بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس:والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية كنهر السائل بناءً على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث {تَجْرِى} رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف أولا، ولا والإسناد مجازي، وأل للعهد الذهني قيل: أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء} [محمد: 15] الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي أنهارها وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطئ الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} صفة ثانية لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقًا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لأسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ فأجيب بأن لهم فيها ثمارًا لذيذة عجيبة وأزواجًا نظيفة {وَهُمْ فِيهَا خالدون} وتقدير المبتدأ هو أو هي للشأن أو القصة ليس بشيء بناءً على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لابد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولًا فبين حالها {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج} زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالًا من {الذين} أو من {جنات} لوصفها وهي حينئذٍ حال مقدرة والأصل في الحال المصاحبة، والقول بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، و{كُلَّمَا} نصب على الظرفية بـ {قَالُواْ}، و{رِزْقًا} مفعول ثان لرزقوا كرزقه مالًا أي أعطاه، وليس مفعولًا مطلقًا مؤكدًا لعامله لأنه عنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعًا لذيذًا غير ما تعرفونه، ومن الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعًا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو إلى وهما ظرفان مستقران واقعان حالًا على التداخل، وصاحب الأولى: {رِزْقًا} والثانية: ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا مرزوقًا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوًا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل نزلة أن تقول: أعطاني فلان، فيقتل: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن {رُزِقُواْ} جعل مطلقًا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدًا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداءً من غير تبعية.وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع كالتفاح والرمان لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة من لا جميعه وهو ركيك جدًا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافًا لمن وهم فيه وقع حالًا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرًا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، و{رِزْقًا} مصدر مؤكد أو في موقع الحال من {رِزْقًا} لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزأ لمجرورها لا جزئيًا فتأتي الركاكة هاهنا، وجمع سبحانه بين {مِنْهَا} و{مِن ثَمَرَةٍ} ولم يقل من ثمرها بدل ذلك لأن تعلق {مِنْهَا} يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق {مِن ثَمَرَةٍ} يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرًا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه بـ {الذي} إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته. وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسًا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم كما روي عن الحسن: «إن أحدهم يؤتي بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن {كلما} تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية عنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته لمتشابها بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه نه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] أي جزاءه فالذي رزقناه مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء كما لا يخفى أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما يشتمل على معناه لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير قد وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرًا الخدم والولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي {وأتوا} على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} إلى قوله سبحانه: {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة: 17- 20] والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد من قبل في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان: {هذا} و{الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} وهو المرزوق في الدارين أي أوتوا رزق الدارين متشابهًا بعضه بالبعض ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد.قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثًا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف، ولا يعكر على دعوى متشابه ما في الدارين ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون} صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالإسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض مع إيراده في البعض قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالًا من ضمير الجمع في: لهم والعامل فيها معنى الاستقرار والأزواج جمع قلة وجمع الكثرة زوجة كعود وعودة ولم يكثر استعماله في الكلام، قيل: ولهذا استغنى عنه بجمع القلة توسعًا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معًا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارًا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مطهرة أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم كما روي عن الحسن: «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها.والتطهير كما قال الراغب يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعًا، فيكون عامًا هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقًا منصرفًا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل، فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي {مطهرات} بناءً على طهرن لا طهرت كما في الأولى ولعلها أولى استعمالًا، وإن كان الكل فصيحًا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرًا عائدًا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء كـ {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] و{يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة وصف من طهر بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرًا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟ا وقرأ عبيد بن عمير: {مُّطَهَّرَةٍ} وأصله متطهرة فأدغم، ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم؛ وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل: أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إنه مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلًا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأبيد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل: البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى: {الأول والآخر} ليس كما في الشاهد بل عنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟ا أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية، تبًا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الكون والفساد؟ا على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرًا مختارًا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلمَ لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلمَ لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائمًا أبدًا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء.
|